ترجمة أحمد شافعي –
لم يخل تصويتي هذا العام من بعض الإثارة.
ذهبت في أول الأمر إلى مدرسة خاطئة في الحي، حيث بحث أحد موظفي الانتخابات باهتمام عن اسمي ثم أوضح لي أنني مسجل في مدرسة بوثزدا الابتدائية في آخر الطريق. ولما وصلت إلى هناك، إذا بفريق من المتطوعين ـ هم جيران لي في العشرينيات من العمر ومتقاعدون ذوو شعر أشيب ـ فأوضحوا لي كيف أضع العلامات في ورقة التصويت. وحينما تعالى بغتة رنين هاتفي المحمول إذا بهم يحاصرونني قائلين “أغلقه”.
كان ذلك هو خير ما في أمريكا، أعني أولئك الناس، وتلك العملية الانتخابية التي تمت في نزاهة وجلال. فيا لها من ميزة يمتاز بها من يستطيع التصويت بهذه الطريقة.
ويا له من عبث أن كان هؤلاء الناس أنفسهم وهذه العملية الانتخابية نفسها هما اللذان قضى دونالد ترامب العامين الماضيين في تلويثهما وتقويضهما، ناجحا في المضي بأغلبية حزبه معه في زعمه الهائل المحتال بأن انتخابات 2020 قد سرقت منه.
لكن مهلا، أين كان ترامب الأسبوع الماضي؟
هل سمعتم منه أو من خدمه مزاعم بأن انتخابات التجديد النصفي هذه قد سرقت من مرشحيه المختارين؟ لم يكن هناك الكثير من ذلك، باستثناء بعض المزاعم من ترامب هنا وهناك، وكلها غير قائم على أي أساس، ومنها أن كاري ليك ـ مرشح أريزونا الفاشل لمنصب الحاكم (وشبيه ترامب الكوميدي) قد تعرض للغش. بدلا من المزاعم، أنفق ترامب أغلب طاقته في إهانة بعض المرشحين الذين عينهم، وفي لوم زوجته وآخرين غيرها على إقناعه بدعم مجموعة غريبة من المنافقين منكري الانتخابات الذين أصبحوا فريق ترامب في هذه الانتخابات وخسروا تقريبا كل جماعة عرقية كبيرة.
إن مجرد عدم قيام ترامب اليوم برفع قضايا نيابة عن كل واحد في محاولة لإثبات تزوير الانتخابات ليقول الكثير. فكأن ترامب يقول لهم جميعا:
“آسف، هذه الكذبة المتعلقة بالانتخابات المسروقة تخصني وحدي. لا مجال إلا لشهيد واحد في هذه الحفلة. لا يمكنكم استعمال كذبتي في انتخابات ولاياتكم. أنا لم أساند غير الطموحين معدومي المبادئ، مثلك يا جيه دي فينس ويا ميميت أوز ويا دوج ماستريانو ويا آدم لاكسولت ـ لتضخيم كذبتي وإثبات أنني لم أخسر. وإن كنتم خسرتم، فالخطأ خطأكم أنتم”.
وذلك أيضا يفسر لماذا قبل أغلب الخاسرين من منكري الانتخابات ـ من أمثال أوزـ الخسارة ببساطة ولم يزعموا التزوير. لماذا لم تثر ضجة يا ميميت؟ وأنت يا جيه دي لاذا لا تزعم أن زملاءك الجمهوريين خسروا لأن الانتخابات “معيبة” مثلما فعلت مع ترامب؟ وماذا عنك يا دوج؟ ما الذي قلته يوم الأحد حينما أعلنت قبولك للخسارة في سباق حاكم ولاية بنسلفانيا: “من الصعب القبول بالنتائج، ما من مسار صحيح غير التسليم، وهذا ما أفعله”.
ماذا؟ لماذا يكون هذا هو المسار الصحيح اليوم ولم يكن كذلك بالنسبة لترامب منذ عامين؟
لأنه ليس بينكم من صدق قط كذبة ترامب من الأساس، فلم يجرؤ منكم أحد على توظيفها في انتاخاباتكم.
غاية الأمر أنكم كنتم تستعملون كذبة ترامب معتقدين أنها جواز مرور ذهبي، وطريق مختصر يسير، إلى النصر. ظننتم أن بوسعكم أن ترددوا صدى كذبة ترامب، وتفوزون بأصوات أنصاره ثم تتخلصون منها. والآن وقد فشل أغلبكم في الانتخاب بناء على إنكار الانتخابات، تريدون أن ننسى كيف أنكم حاولتم محاولة مخجلة أن تستغلوا كذبة للحصول على سلطة، متسللين.
لا، لا، وألف لا.
لا يمكن أن ننسى أبدا الضرر الذي تسبب فيه دونالد ترامب ومقلدوه وأتباعه المتعصبون وآلته الإعلامية التي ضخمت كذبته وما فعلوه جميعا في ديمقراطيتنا واحترام مؤسساتنا ووحدة مجتمعنا بترديد هذه الكذبة الكبيرة. ذلك وحده كان خزيا هزليا، ولكن القيام به في ظل وباء منهك هائل، ونحن في حاجة أكثر من ذي قبل إلى الثقة في بعضنا بعضا، ورعاية بعضنا بعضا، والعمل مع حكومتنا للقضاء على كوفيد، فقد كان إجراما.
لا أعتقد أننا نفهم تمام الفهم الضرر الذي ألحقه هذا بنسيجنا الاجتماعي ونظامنا السياسي. لقد مزق أواصر عائلات في عشاء عيد الشكر. وقطع ما بين أصدقاء. وقسَّم أحياء، ومجالس مدن، ومجامع ولايات، ومجالس آباء، وغرف اجتماعات، وغرف أخبار. وشتت بلدا بأكمله عن العمل من أجل بناء الأمة، جاعلا اجتماعنا على شيء كبير وصعب أمرا يقارب المستحيل.
ولم يلوث ذلك سمعة ديمقراطيتنا فحسب، وإنما كان دافعا أيضا إلى شغب السادس من يناير والهجوم على مبنى الكابيتول في بلدنا بغرض معلن هو الانقلاب على الانتخابات. مات خمسة من شرطة الكابيتول أو العاصمة في ما يتصل بتلك الهجمة. وقال كثير من عناصر الشغب لاحقا إن دافعهم كان هو الكذبة الكبيرة. والمتطرفون الذين هاجموا بول بيلوسي، زوج رئيسة الكونجرس نانسي بيلوسي، في بيتهما كانوا قد تشربوا بالمؤامرات الانتخابية.
كان في ذلك أيضا تقوية لفلاديمير بوتين في روسيا وشي جينبنج في الصين ومتوهمي الديمقراطيين من أمثال فكتور أوربان في المجر، فجعلوا جميعا يتباهون بأن شعوبهم لا ينبغي أن تخشى أبدا “الفوضى” التي يأتي بها التصويت الديمقراطي.
ترامب، وأمثاله الصغار الذين روجوا في كذبته على سبيل التفكه والتربح ـ وبخاصة روبرت ولاكلان مردوخ، وتاكر كارلسن، وشين هانيتي، وتقريبا كل العاملين في شبكة فوكس ـ قد ألحقوا ضررا جسيما ببلدنا. فليكللهم العار جميعا.
ولدى ترامب الآن من الجرأة، بل الوقاحة الفاسدة، أن يقف وسط نيران ما تسبب فيه من أكاذيب وكراهية وقطع للعلاقات ويعلن أنه يرشح نفسه مرة أخرى للرئاسة؟
والآن بعد انغماس فريق مردوخ طوال سنتين في هذا التزييف يمتلك من الجرأة أن يقول “حسن، ربما يجدر بنا أن ننتقل إلى رون ديسانتس” دونما محاسبة على ما أسهموا فيه؟ لا، معذرة، لن يرؤف بكم التاريخ.
مثلما قال ديفيد أكسلرود، المستشار السابق للرئيس باراك أوباما، لشبكة سي إن إن عن تخلي بعض الساسة الجمهوريين عن ترامب بعد خسارته، قال إن مشاهدة “نزوحهم عن معسكره، بقيادة روبرت مردوخ وإمبراطوريته الإعلامية اليمينية كان منظرا يستحق المشاهدة. فالتعدي على الديمقراطية بالنسبة لهم أمر يمكن التسامح مع، خلافا للخسارة”.
ذلك هو السبب الذي يجعلني أشعر للمرة الأولى منذ أمد بعيد بشيء من الأمل مرة أخرى في النظام السياسي الأمريكي. منذ أن نزل ترامب عن ذلك السلم الكهربائي [في يوم إعلانه الترشح للرئاسة] سنة 2015، حاولت مؤسسة الحزب الجمهوري أن تفعل أمرين معا: أن تحصد أصوات قاعدة ترامب وأن تحيد بعينها عن سلوكياته المخزية ومنها تشويهه لنظامنا الانتخابي. لم يكن بوسعهم قط أن يتخلوا عن ترامب لأنهما أدمنوا أصوات قاعدته.
حسن، ها هي أغلبية الأمريكيين قد أسست قاعدة. أو كما كتب نيك كوراسانيتي في التايمز: “كل منكر للانتخابات سعى إلى الفوز في ميدان مهم خسر في الانتخابات هذا العام، إذ رفض الناخبون بشدة الحزبيين المتطرفين الذين وعدوا بتقييد التصويت وإصلاح العملية الانتخابية”.
مؤكد أن أغلب أنصار ترامب المتعصبين لا يزالون يتبنون كذبته، لأن التخلي عنها علنا أمام الأهل والأصدقاء أو زملاء العمل أمر محرج للغاية. لكن مؤسسة الحزب الجمهوري عليها أن تختار: فإما مواصلة الهزيمة مع ترامب أو التصويت ضده أمام ديسانتس.
أجمل ما في الأمر أن هذه الحسبة لم تطرحها قيادات الحزب الجمهوري ـ فهم جبناء ـ بل طرحها الأكثر أهمية وشجاعة في هذه الانتخابات.
طرحها عوام الأمريكيين: من جمهوريين وديمقراطيين ومستقلين ذوي مبادئ، شباب وشيوخ، بالتصويت ضد الكذبة الكبيرة ومروجيها في مقارهم الانتخابية المحلية، مثلما في المقر الذي انتخبت أنا فيه، وجيراننا أصحاب المبادئ وإخواننا في الوطن ممن حسبوا الأصوات بعناية، ونزاهة، وأمانة، تماما كما فعلوا دائما، بما في ذلك انتخابات 2020.
• توماس فريدمان كاتب مقال في الشؤون الخارجية في نيويورك تايمز ومؤلف كتاب “من بيروت إلى القدس”.
** “خدمة نيويورك تايمز” ترجمة خاصة بجريدة عمان.